الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أخي الحبيب: لقد كتبت لك هذه النافذة على دار النعيم، تلك الأمنية الغالية؛ ليطول فكرك في نعيمها وسرورها، ويعظم رجاؤك في طلبها، فإنَّ من رجا شيئاً طلبه، ولست أعني بالرجاء رجاء مَنْ ينهمك في المعاصي مع رجاء العفو من غير توبة، فهذا غرور، وحاله كحال من بثَّ البذر في أرض سبخة ورجا الزرع بعد ذلك، أو كمن انتظر زرع الجنة ببذر النار، أو كمن يزرع السيئات ويريدها حسنات يوم القيامة.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبسِ
لكن الرجاء المحمود هو الرجاء بعد بذل الأسباب وتأكيدها كما في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَتَ اللهِ } [البقرة:218]، وأين هذا الرجاء من رجاء رجل ترك الصلاة وارتكب المحرمات، فلمَّا قيل له: فلان، ما هذا؟ قال: الله غفور رحيم! فأجابه: يا هذا، إن الله يقول: { وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهتَدَى } [طه:82]، فأين التوبة والعمل الصالح؟
أخي الحبيب: الدنيا مزرعة الآخرة. والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات تزيده، والمعاصي تنقصه، ويوم القيامة يوم الحصاد، فمن زرع خيراً وجد خيراً، ومن زرع شرَّاً حصد شرَّاً، كما في حديث زيد الخير وفيه: كيف أصبحت؟ قال: أصحبت أحب الخير وأهله، وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء حزنت وحننت إليه.
والمقصود أن مَنْ طال فكره في نعيم الجنة وسرورها وما أعدَّه الله فيها من النعيم المقيم الموعود لأهل الجِنان دعاه ذلك إلى حسن العمل.
فيا عجباً لمَنْ يؤمن بدار الحياة التي لا موت فيها ولا سقم، ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها، كيف لا يطلبها؟ والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن من الموت والجوع والعطش لكان جديراً بأن يهجر الدنيا بسببها، فكيف وأهلها ملوك آمنون، وفي الفرح والسرور يتمتعون، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وهم فيها خالدون، وعلى الدوام بين أصناف النعيم يترددون، ومن زوالها آمنون، ففي الحديث: « ينادي مناد أهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً » [رواه مسلم]، فالنعيم الصافي لا مطمع فيه إلا في الجنة.
أما الدنيا فأحلام مشوبة بالنغص، إن ضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً أحزنت أياماً، وآلامها تزيد على لذَّاتها، أول نعيمها مخاوف وآخره متالف.
لكن نعيم الجنة لا يقدَّر بقدر. ولا يخطر على بال، وكيف يُقدَّر قَدْر دار غرسها الله بيده وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهَّرها من كل عيب وآفة ونقص، وقد أخبرنا ربنا في كتابه الكريم عما أعدَّه لعباده المترفين في جنَّات النعيم من أصناف المطاعم والمناكح والمساكن والملابس، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماءً ولحماً، وحريراً وفضة وذهباً وفاكهة وحوراً وأنهاراً وقصوراً، وليس بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا إلا التوافق في الأسماء، وكل ما ورد من أخبار عما في دار القرار في جوار رب العالمين يخالف ما هو موجود في هذه الدار كيفيةً وماهيةً مع اتفاقهما في الاسم واختلافهما في الحقائق والطعوم والروائح، فقد أعدَّ الله لمن أطاعه في الجنة ما لم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرَّب، يقول الله: { فَلا تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُنٍ } [السجدة:17].
يقول الإمام المنذري: ( الجنة وأهلها فوق ذلك كله، ومن جملة ذلك النعيم المعد للمؤمنين أنها لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، ونعيمها دائم في جميع الأوقات، فلا تعتريهم شدة ولا آفة من الآفات، ويقع نعيم أهل الجنة على أتم الوجوه وأحسنها، ولا يترتب على ذلك النعيم ما يترتب على نعيم أهل الدنيا، ففي الحديث: « إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون » قالوا: فما بال الطعام؟ قال صلى الله عليه وسلم : « جشاء ورشح - أي عرق - كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النَّفَس » [رواه مسلم].
وأهل الجنة لا ينامون لئلا يُشغلوا بالنوم عن الملاذ والحياة الهنيئة، فهم في النعيم مستغرقون، وليسوا كأهل الدنيا ينامون فقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أينام أهل الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون » [رواه الطبراني والبزار]. وذلك لكمال حياتهم فيها.
أما نساء أهل الجنة الطاهرات فقد ورد في وصفهن ما يبهر العقول ويدعو كلَّ عبد صالح يرجو الله والدار الآخرة إلى كل عمل صالح مبرور؛ حتى ينال ما وعد الله عباده المتقين من التلذذ بالحور العين، فقد ورد في الحديث « للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة يُرى مخ ساقيها من وراء الثياب » [رواه أحمد]، وذِكْر القليل هنا من الزوجات لا ينافي الكثرة، وهم في تلك الكثرة متفاوتون، فقد ورد عند أحمد وإسناده حسن بأن « للرجل اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين سوى أزواجه في الدنيا » . وعند أبي يعلى: « يدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله وزوجتين من ولد آدم » [فتح الباري:ج6].
وقد ورد أيضاً في وصف نساء الجنة ما يحرك النفوس إلى المسارعة إلى طاعة رب العالمين، ففي الحديث: « لو أن امرأة من أهل الجنة اطَّلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأتها ريحاً، ولنصيفها على رأسها - يعني الخمار - خير من الدنيا وما فيها » [رواه البخاري]، بل إن الشمس على قوة نورها وضيائها إذا أشرقت في الصباح أطفأت كل نور، وإذا غربت لم يستطيعوا أن يطردوا الظلام كله ولو أضاء الناس كلهم جميع كهرباء الأرض ولكن « لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أشرفت لملأت الأرض ريحاً ومسكاً، ولأذهبت ضوء الشمس والقمر » [رواه الطبراني].
ومع ذلك فقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين » قيل: وبما ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن » [المجمع:ج10].
وورد كذلك في وصف نساء الجنة قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الرجل لينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة » [رواه أحمد وإسناده حسن].
أما ما ورد في المزيد في الجنة كما في قوله تعالى: { وَلَدَينَا مَزِيدٌ } [ق:35] « أن السحابة تمر بأهل الجنة فتقول: ما تدعون أن أمطركم، قال: فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم » [رواه ابن المبارك]، قال كثير بن مرَّة: ( لئن شهدت ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات ).
فنعيم الجنة وما فيها من السرور فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، فلا يُقاس عليه شيء من نعيم الدنيا مهما كان، فشجرة طوبى لا يقاس عليها شيء، ولا يُوجد لها مثيل في الدنيا، وورد في وصفها ما يبهر العقول ففي الحديث: « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم وَظِلٍ مَّمدُودٍ » [رواه البخاري ومسلم]، وورد عند أحمد أن رجلاً سأل رسول الله فقال: وما طوبى؟ قال صلى الله عليه وسلم : « شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها » .
أما صفة أهل الجنة الذين يدخلونها فأسنانهم وألوانهم وطولهم واحد، ففي الحديث: « يدخل أهل الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خَلق آدم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع » [رواه أحمد].
يقول ابن كثير: ( وفي هذا الطول والعرض والسن من الحكمة ما لا يخفى، فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذات، ولأنه أكمل سن القوة مع عظم آلات اللذة، وباجتماع الأمرين يكون كمال اللذة وقوتها بحيث يصل الواحد مائة عذراء، ففي الحديث: أن رجلاً من أهل الكتاب سأل رسول الله فقال: إنك تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « نعم والذي نفسي بيده، إن أحدهم ليُعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع » قال: والذي يأكل ويشرب يكون له حاجة والجنة طيبة ليس فيها أذى؟ قال صلى الله عليه وسلم : « حاجة أحدهم عرق هو كريح المسك » [رواه الدارمي].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « أي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم إلى مائة عذراء » [رواه الطبراني]، بل ورد « أن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم في الجنة عُدن أبكاراً » [رواه الطبراني أيضاً]، فهم مع أزواجهم في الجنان في غاية الأماني والأمان، نسأل الله من فضله.
وأهل الجنة في ازدياد من قوة الشباب ونضرة الوجوه وحسن الهيئة وطيب العيش وذلك على الدوام { وَفِى ذَلِكَ فَليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ } [المطففين:26]، و { لِمِثلِ هَذَا فَليَعمَلِ العَامِلُونَ } [الصافات:61].
أما أخلاق أهل الجنة وقلوبهم فكما قال تعالى: { وَنَزَعنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّن غِلٍ إِخوَاناً عَلَى سُرُر مُتَقَابِلِينَ } [الحجر:47]. وفي الحديث: « لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يُسبحُون الله بُكرة وعشية » [رواه البخاري].
أما ما ورد في ذكر ريح الجنان وطيبه وانتشاره حتى إنه ليشمُّ من مسيرة سنين عديدة ومسافات بعيدة فشيء لا يخطر ببال، ففي الحديث: « تراح رائحة الجنة من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجد ريحها منان بعمله ولا عاق ولا مدمن خمر » [رواه الطبراني]. سبحان الله العظيم، هل يوجد في هذه الدنيا دار أو طيب يوجد ريحها أو ريحه من مسيرة ساعة فقط، لكن ريح الجنان يوجد من مسافات بعيدة.
أما ثمار الجنة فليست كثمار الدنيا، إن ثمار الدنيا تأتي في بعض الفصول ولا تأتي في وقت آخر، وتكتسي أشجارها بالأوراق في وقت وتسقط في وقت آخر، أما ثمار الجنة فأُكُلها دائم لا ينقطع { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلكَ عُقبَى الَّذِينَ اتَقَواْ } [الرعد:35].
وثمار الجنة سهلة المنال قريبة المتناول حتى لو كانت الثمار في أعالي الأشجار فأراد أخذها لاقتربت منه وتذللت إليه تذليلاً { وَذُلِلَت قُطُوفُهَا تَذلِيلا } [الإنسان:14]. وما في الجنة شجرة إلا ولها ساق من ذهب وتربتها زعفران ومسك فما ظنك بما يتولد منها، إنه لا يخرج منها إلا الثمار الراتقة الناضجة الأنيقة.
أما صفة ثمر الجنة ففي الحديث « ثمر الجنة أمثال القلال والدلاء أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، وليس فيه عجم » [رواه ابن المبارك]. بل ثبت أن الرجل إذا قال: ( سبحان الله وبحمده )، غرست له نخلة في الجنة.
أما خيام أهل الجنة فليست كخيام الدنيا. ففي الحديث: « إن للمؤمن لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً » [رواه البخاري].
أما أعلى نعيم الجنان فشيء عظيم يبهر العقول ويشوَّق النفوس، وذلك إذا كَشف الرب جل جلاله الحجاب، وتجلَّى لأهل الجنان نسي أهل الجنة ما هم فيه من النعيم وشُغلوا عن الجنان وعن الحور العين بالنظر إلى رب العالمين، وذلك لكمال جلاله سبحانه وتعالى.
وذكر ابن كثير عن أبي المعالي الجويني أن الربَّ تبارك وتعالى إذا كشف لأهل الجنة الحجاب وتجلى لأهل الجنة تدفقت الأنهار، واصطفت الأشجار، وتجاوبت السرر والغرفات بالصرير، وغردت الطيور وأشرقت الحور العين. قلت: ومع هذا كله فإن أهل الجنان يشغلون عما هم فيه بالنظر إلى الرب تبارك وتعالى نسأل الله العظيم أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم.
وفي الحديث: « إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟! قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم » [رواه أحمد وصححه الألباني].
ومن أحسن ما قال الشعراء وفصحاء الأدباء في الجنة:
فحلت سويدا القلب لا أنا باغياً
سواها ولا عن حالها أتحول
يقول الله: خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبغُونَ عَنهَا حِوَلا [الكهف:108]. فكيف بأهل الجنة إذا ذبح الموت بين الجنة والنار، وذلك عندما « يؤتي بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقول: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون. ويقول: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون. ويرون أنه قد جاء الفرج فيذبح الموت ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت، فازداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، وازداد أهل النار حزناً إلى حزنهم » [رواه أحمد والبخاري]، وزاد ابن أبي الدنيا: ( فيأمن هؤلاء، وينقطع رجاء هؤلاء ).
واعلم أخي الحبيب أن الجنة لا تُنال بالأماني واتباع الهوى، ولا سبيل إليها ولو تمنى المتمنون إلا بطاعة الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم : « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى » قالوا: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : « مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى » . واحذر من نفسك فإنها عقبة كؤود، وفي هذه العقبة أودية وعقبات ولصوص يقطعون الطريق على السالكين ولا سيما أهل الليل المدلجين، فإذا لم يكن معهم عُدة الإيمان ومصابيح اليقين تعلقت بهم تلك القواطع، وفي الحديث: « مَنْ خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا سلعة الله الجنة » [رواه الترمذي]، وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به الصياح والتخذيل والتخويف، فإذا لم يلتفت إليه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أماناً ورأى طريقاً واسعاً آمناً يفضي به إلى أعلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام وفيه الإقامات قد أعدت لركب الرحمن، فما بينك وبينها إلا قوة العزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس ودعاء عريض، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
قد هيؤك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
واعلم أن سلعة الله غالية، وأن دونها أهوال وكروب وهموم، ففي الحديث: « حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات » فحفت الجنة بالمكاره والأعمال الشاقة من فعل الخيرات وترك المحرمات ولكن داخلها فيه من اللذات والمسرات ما لا يخطر ببال، وحفت النار بالشهوات شهوات الغي في البطون والفروج ومضلات الهوى والفتن وهي سهلة لكن من دخل النار فداخلها كله مضرات وحشرات وعذاب فظيع.
نسأل الله العظيم أن يُقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معصيته، وأن يهب لنا من الطاعة ما يبلغنا به جنته بمنه وكرمه، وأن يرزقنا لذَّة النظر إلى وجهه الكريم والشوق إلى لقائه في غير ضرَّاء مضرَّة ولا فتنة مضلة، وأن يرزقنا رضوانه الأكبر والفردوس الأعلى.
وقد كتبت نافذة على الجحيم فارجع إليها إن أردت.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أخي الحبيب: لقد كتبت لك هذه النافذة على دار النعيم، تلك الأمنية الغالية؛ ليطول فكرك في نعيمها وسرورها، ويعظم رجاؤك في طلبها، فإنَّ من رجا شيئاً طلبه، ولست أعني بالرجاء رجاء مَنْ ينهمك في المعاصي مع رجاء العفو من غير توبة، فهذا غرور، وحاله كحال من بثَّ البذر في أرض سبخة ورجا الزرع بعد ذلك، أو كمن انتظر زرع الجنة ببذر النار، أو كمن يزرع السيئات ويريدها حسنات يوم القيامة.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبسِ
لكن الرجاء المحمود هو الرجاء بعد بذل الأسباب وتأكيدها كما في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَتَ اللهِ } [البقرة:218]، وأين هذا الرجاء من رجاء رجل ترك الصلاة وارتكب المحرمات، فلمَّا قيل له: فلان، ما هذا؟ قال: الله غفور رحيم! فأجابه: يا هذا، إن الله يقول: { وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهتَدَى } [طه:82]، فأين التوبة والعمل الصالح؟
أخي الحبيب: الدنيا مزرعة الآخرة. والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات تزيده، والمعاصي تنقصه، ويوم القيامة يوم الحصاد، فمن زرع خيراً وجد خيراً، ومن زرع شرَّاً حصد شرَّاً، كما في حديث زيد الخير وفيه: كيف أصبحت؟ قال: أصحبت أحب الخير وأهله، وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء حزنت وحننت إليه.
والمقصود أن مَنْ طال فكره في نعيم الجنة وسرورها وما أعدَّه الله فيها من النعيم المقيم الموعود لأهل الجِنان دعاه ذلك إلى حسن العمل.
فيا عجباً لمَنْ يؤمن بدار الحياة التي لا موت فيها ولا سقم، ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها، كيف لا يطلبها؟ والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن من الموت والجوع والعطش لكان جديراً بأن يهجر الدنيا بسببها، فكيف وأهلها ملوك آمنون، وفي الفرح والسرور يتمتعون، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وهم فيها خالدون، وعلى الدوام بين أصناف النعيم يترددون، ومن زوالها آمنون، ففي الحديث: « ينادي مناد أهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً » [رواه مسلم]، فالنعيم الصافي لا مطمع فيه إلا في الجنة.
أما الدنيا فأحلام مشوبة بالنغص، إن ضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً أحزنت أياماً، وآلامها تزيد على لذَّاتها، أول نعيمها مخاوف وآخره متالف.
لكن نعيم الجنة لا يقدَّر بقدر. ولا يخطر على بال، وكيف يُقدَّر قَدْر دار غرسها الله بيده وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهَّرها من كل عيب وآفة ونقص، وقد أخبرنا ربنا في كتابه الكريم عما أعدَّه لعباده المترفين في جنَّات النعيم من أصناف المطاعم والمناكح والمساكن والملابس، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماءً ولحماً، وحريراً وفضة وذهباً وفاكهة وحوراً وأنهاراً وقصوراً، وليس بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا إلا التوافق في الأسماء، وكل ما ورد من أخبار عما في دار القرار في جوار رب العالمين يخالف ما هو موجود في هذه الدار كيفيةً وماهيةً مع اتفاقهما في الاسم واختلافهما في الحقائق والطعوم والروائح، فقد أعدَّ الله لمن أطاعه في الجنة ما لم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرَّب، يقول الله: { فَلا تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُنٍ } [السجدة:17].
يقول الإمام المنذري: ( الجنة وأهلها فوق ذلك كله، ومن جملة ذلك النعيم المعد للمؤمنين أنها لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، ونعيمها دائم في جميع الأوقات، فلا تعتريهم شدة ولا آفة من الآفات، ويقع نعيم أهل الجنة على أتم الوجوه وأحسنها، ولا يترتب على ذلك النعيم ما يترتب على نعيم أهل الدنيا، ففي الحديث: « إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون » قالوا: فما بال الطعام؟ قال صلى الله عليه وسلم : « جشاء ورشح - أي عرق - كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النَّفَس » [رواه مسلم].
وأهل الجنة لا ينامون لئلا يُشغلوا بالنوم عن الملاذ والحياة الهنيئة، فهم في النعيم مستغرقون، وليسوا كأهل الدنيا ينامون فقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أينام أهل الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون » [رواه الطبراني والبزار]. وذلك لكمال حياتهم فيها.
أما نساء أهل الجنة الطاهرات فقد ورد في وصفهن ما يبهر العقول ويدعو كلَّ عبد صالح يرجو الله والدار الآخرة إلى كل عمل صالح مبرور؛ حتى ينال ما وعد الله عباده المتقين من التلذذ بالحور العين، فقد ورد في الحديث « للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة يُرى مخ ساقيها من وراء الثياب » [رواه أحمد]، وذِكْر القليل هنا من الزوجات لا ينافي الكثرة، وهم في تلك الكثرة متفاوتون، فقد ورد عند أحمد وإسناده حسن بأن « للرجل اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين سوى أزواجه في الدنيا » . وعند أبي يعلى: « يدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله وزوجتين من ولد آدم » [فتح الباري:ج6].
وقد ورد أيضاً في وصف نساء الجنة ما يحرك النفوس إلى المسارعة إلى طاعة رب العالمين، ففي الحديث: « لو أن امرأة من أهل الجنة اطَّلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأتها ريحاً، ولنصيفها على رأسها - يعني الخمار - خير من الدنيا وما فيها » [رواه البخاري]، بل إن الشمس على قوة نورها وضيائها إذا أشرقت في الصباح أطفأت كل نور، وإذا غربت لم يستطيعوا أن يطردوا الظلام كله ولو أضاء الناس كلهم جميع كهرباء الأرض ولكن « لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أشرفت لملأت الأرض ريحاً ومسكاً، ولأذهبت ضوء الشمس والقمر » [رواه الطبراني].
ومع ذلك فقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين » قيل: وبما ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن » [المجمع:ج10].
وورد كذلك في وصف نساء الجنة قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الرجل لينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة » [رواه أحمد وإسناده حسن].
أما ما ورد في المزيد في الجنة كما في قوله تعالى: { وَلَدَينَا مَزِيدٌ } [ق:35] « أن السحابة تمر بأهل الجنة فتقول: ما تدعون أن أمطركم، قال: فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم » [رواه ابن المبارك]، قال كثير بن مرَّة: ( لئن شهدت ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات ).
فنعيم الجنة وما فيها من السرور فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، فلا يُقاس عليه شيء من نعيم الدنيا مهما كان، فشجرة طوبى لا يقاس عليها شيء، ولا يُوجد لها مثيل في الدنيا، وورد في وصفها ما يبهر العقول ففي الحديث: « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم وَظِلٍ مَّمدُودٍ » [رواه البخاري ومسلم]، وورد عند أحمد أن رجلاً سأل رسول الله فقال: وما طوبى؟ قال صلى الله عليه وسلم : « شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها » .
أما صفة أهل الجنة الذين يدخلونها فأسنانهم وألوانهم وطولهم واحد، ففي الحديث: « يدخل أهل الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خَلق آدم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع » [رواه أحمد].
يقول ابن كثير: ( وفي هذا الطول والعرض والسن من الحكمة ما لا يخفى، فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذات، ولأنه أكمل سن القوة مع عظم آلات اللذة، وباجتماع الأمرين يكون كمال اللذة وقوتها بحيث يصل الواحد مائة عذراء، ففي الحديث: أن رجلاً من أهل الكتاب سأل رسول الله فقال: إنك تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « نعم والذي نفسي بيده، إن أحدهم ليُعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع » قال: والذي يأكل ويشرب يكون له حاجة والجنة طيبة ليس فيها أذى؟ قال صلى الله عليه وسلم : « حاجة أحدهم عرق هو كريح المسك » [رواه الدارمي].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « أي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم إلى مائة عذراء » [رواه الطبراني]، بل ورد « أن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم في الجنة عُدن أبكاراً » [رواه الطبراني أيضاً]، فهم مع أزواجهم في الجنان في غاية الأماني والأمان، نسأل الله من فضله.
وأهل الجنة في ازدياد من قوة الشباب ونضرة الوجوه وحسن الهيئة وطيب العيش وذلك على الدوام { وَفِى ذَلِكَ فَليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ } [المطففين:26]، و { لِمِثلِ هَذَا فَليَعمَلِ العَامِلُونَ } [الصافات:61].
أما أخلاق أهل الجنة وقلوبهم فكما قال تعالى: { وَنَزَعنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّن غِلٍ إِخوَاناً عَلَى سُرُر مُتَقَابِلِينَ } [الحجر:47]. وفي الحديث: « لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يُسبحُون الله بُكرة وعشية » [رواه البخاري].
أما ما ورد في ذكر ريح الجنان وطيبه وانتشاره حتى إنه ليشمُّ من مسيرة سنين عديدة ومسافات بعيدة فشيء لا يخطر ببال، ففي الحديث: « تراح رائحة الجنة من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجد ريحها منان بعمله ولا عاق ولا مدمن خمر » [رواه الطبراني]. سبحان الله العظيم، هل يوجد في هذه الدنيا دار أو طيب يوجد ريحها أو ريحه من مسيرة ساعة فقط، لكن ريح الجنان يوجد من مسافات بعيدة.
أما ثمار الجنة فليست كثمار الدنيا، إن ثمار الدنيا تأتي في بعض الفصول ولا تأتي في وقت آخر، وتكتسي أشجارها بالأوراق في وقت وتسقط في وقت آخر، أما ثمار الجنة فأُكُلها دائم لا ينقطع { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلكَ عُقبَى الَّذِينَ اتَقَواْ } [الرعد:35].
وثمار الجنة سهلة المنال قريبة المتناول حتى لو كانت الثمار في أعالي الأشجار فأراد أخذها لاقتربت منه وتذللت إليه تذليلاً { وَذُلِلَت قُطُوفُهَا تَذلِيلا } [الإنسان:14]. وما في الجنة شجرة إلا ولها ساق من ذهب وتربتها زعفران ومسك فما ظنك بما يتولد منها، إنه لا يخرج منها إلا الثمار الراتقة الناضجة الأنيقة.
أما صفة ثمر الجنة ففي الحديث « ثمر الجنة أمثال القلال والدلاء أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، وليس فيه عجم » [رواه ابن المبارك]. بل ثبت أن الرجل إذا قال: ( سبحان الله وبحمده )، غرست له نخلة في الجنة.
أما خيام أهل الجنة فليست كخيام الدنيا. ففي الحديث: « إن للمؤمن لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً » [رواه البخاري].
أما أعلى نعيم الجنان فشيء عظيم يبهر العقول ويشوَّق النفوس، وذلك إذا كَشف الرب جل جلاله الحجاب، وتجلَّى لأهل الجنان نسي أهل الجنة ما هم فيه من النعيم وشُغلوا عن الجنان وعن الحور العين بالنظر إلى رب العالمين، وذلك لكمال جلاله سبحانه وتعالى.
وذكر ابن كثير عن أبي المعالي الجويني أن الربَّ تبارك وتعالى إذا كشف لأهل الجنة الحجاب وتجلى لأهل الجنة تدفقت الأنهار، واصطفت الأشجار، وتجاوبت السرر والغرفات بالصرير، وغردت الطيور وأشرقت الحور العين. قلت: ومع هذا كله فإن أهل الجنان يشغلون عما هم فيه بالنظر إلى الرب تبارك وتعالى نسأل الله العظيم أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم.
وفي الحديث: « إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟! قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم » [رواه أحمد وصححه الألباني].
ومن أحسن ما قال الشعراء وفصحاء الأدباء في الجنة:
فحلت سويدا القلب لا أنا باغياً
سواها ولا عن حالها أتحول
يقول الله: خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبغُونَ عَنهَا حِوَلا [الكهف:108]. فكيف بأهل الجنة إذا ذبح الموت بين الجنة والنار، وذلك عندما « يؤتي بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقول: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون. ويقول: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون. ويرون أنه قد جاء الفرج فيذبح الموت ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت، فازداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، وازداد أهل النار حزناً إلى حزنهم » [رواه أحمد والبخاري]، وزاد ابن أبي الدنيا: ( فيأمن هؤلاء، وينقطع رجاء هؤلاء ).
واعلم أخي الحبيب أن الجنة لا تُنال بالأماني واتباع الهوى، ولا سبيل إليها ولو تمنى المتمنون إلا بطاعة الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم : « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى » قالوا: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : « مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى » . واحذر من نفسك فإنها عقبة كؤود، وفي هذه العقبة أودية وعقبات ولصوص يقطعون الطريق على السالكين ولا سيما أهل الليل المدلجين، فإذا لم يكن معهم عُدة الإيمان ومصابيح اليقين تعلقت بهم تلك القواطع، وفي الحديث: « مَنْ خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا سلعة الله الجنة » [رواه الترمذي]، وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به الصياح والتخذيل والتخويف، فإذا لم يلتفت إليه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أماناً ورأى طريقاً واسعاً آمناً يفضي به إلى أعلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام وفيه الإقامات قد أعدت لركب الرحمن، فما بينك وبينها إلا قوة العزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس ودعاء عريض، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
قد هيؤك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
واعلم أن سلعة الله غالية، وأن دونها أهوال وكروب وهموم، ففي الحديث: « حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات » فحفت الجنة بالمكاره والأعمال الشاقة من فعل الخيرات وترك المحرمات ولكن داخلها فيه من اللذات والمسرات ما لا يخطر ببال، وحفت النار بالشهوات شهوات الغي في البطون والفروج ومضلات الهوى والفتن وهي سهلة لكن من دخل النار فداخلها كله مضرات وحشرات وعذاب فظيع.
نسأل الله العظيم أن يُقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معصيته، وأن يهب لنا من الطاعة ما يبلغنا به جنته بمنه وكرمه، وأن يرزقنا لذَّة النظر إلى وجهه الكريم والشوق إلى لقائه في غير ضرَّاء مضرَّة ولا فتنة مضلة، وأن يرزقنا رضوانه الأكبر والفردوس الأعلى.
وقد كتبت نافذة على الجحيم فارجع إليها إن أردت.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .